خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

خطبة الجمعة للعلامة السيد علي فضل الله

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة الإمام الحسن(ع) لأحد أصحابه، وهو جنادة بن أبي أميّة، حين قال: دخلت على الإمام الحسن(ع) وهو على فراش الموت، يعاني من آثار السمّ الَّذي دسَّ له، وقلت له: عظني يا بن رسول الله، قال(ع): استعدَّ لسفرك، وحصِّل زادك قبل حلول أجلك، واعلم أنّك تطلب الدنيا والموت يطلبك، واعلم أنّك لا تكسب من المال شيئاً فوق قوّتك إلاّ كنت فيه خازناً لغيرك.. واعمل لدنياك كأنّك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنّك تموت غداً، وإذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذل معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزَّ وجلَّ”..
أيُّها الأحبة: إننا أحوج ونحن نستعيد ذكرى ارتحال هذا الإمام إلى ربه أن نعبر عن وفائنا له بأخذ هذه الوصية التي تجعلنا أكثر وعياً ومسؤولية لمسارنا في هذه الحياة وأكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة…
والبداية من الاستحقاق الرئاسي، حيث لا تزال الأنظار تتجه في الأيام القادمة إلى قدوم الموفد الفرنسي ومدى قدرته على السير بالحوار الذي دعا إليه في ظل المواقف المعلنة التي أبداها العديد من الأفرقاء السياسيين بعدم الرغبة في المشاركة بهذا الحوار، ما يجعل الكثيرون يبدون شكوكاً بقدرته على تحقيق ما يصبو إليه.
ونحن على هذا الصعيد، نعيد دعوة الجميع إلى الدخول من هذا الباب المفتوح للخروج من المأزق الذي وصل إليه هذا الاستحقاق، بعد أن أصبح واضحاً أن أياً من الفرقاء لن يستطيع أن يأخذ البلد إلى خياره، وأن لا بديل عن الحوار للتوصل لحلحلة العقد التي لا تزال تقف عائقاً أمام التوافق على شخص الرئيس، والمشروع الذي سيحمله للنهوض بالبلد، فيما لا أفق لبديل آخر عن هذا الحوار إن على صعيد الخارج أو الداخل…
إننا نتفهم الملاحظات التي يبديها هذا الفريق أو ذاك حول هذه المبادرة أو تجاه بعضهم البعض، لكن هذا لا يعالج بالمقاطعة أو بالتراشق بالاتهامات أو بالكلام القاسي والمستفز بل هو يعالج بالحوار الداخلي البناء والصريح والذي يأخذ بعين الاعتبار مصلحة البلد كل البلد.
لذلك نقولها للجميع: وفروا على هذا البلد الوقت الضائع الذي يأكل من رصيده السياسي والاقتصادي والنقدي ويهدد استقراره الأمني، واغتنموا فرصة قد لا تتكرر لا سيما إننا نشهد تصعيداً في المنطقة، وعلى أكثر من ساحة، ما قد يساهم في تعقيد لهذا الاستحقاق.
في هذا الوقت تستمر معاناة اللبنانيين على الصعيد المعيشي والحياتي بفعل الارتفاع الجنوني في الأسعار أو كلفة الدواء والاستشفاء، ما يجعل اللبنانيين غير قادرين على تأمين كلفة الغذاء والدواء والاستشفاء ومقاعد دراسة لأولادهم، وبدلاً من أن تقوم الدولة بالسعي للتخفيف من هذه الأعباء عنهم، نجد إمعاناً في زيادة الأعباء عليهم، والذي نراه اليوم في ارتفاع فواتير الكهرباء رغم ندرتها والاتصالات والضرائب والرسوم، بينما نشهد تخفيضاً في التقديمات المطلوبة من الدولة تجاه مواطنيها، وهو ما أشار إليه القرار الأخير الصادر عن الضمان الاجتماعي باحتسابه في تقديماته عند شراء الدواء أو الاستشفاء الدولار الأمريكي على 1500 فيما المواطنون يدفعون تلك الفواتير على حسب سعر السوق.
ونبقى في هذا الإطار، لندعو إلى الإسراع بالعمل لإزالة كل العراقيل التي لا تزال تقف أمام فتح أبواب المدارس الرسمية وعودة المعلمين فيها لمزاولة عملهم لكونها باتت ملاذاً لأكثر اللبنانيين غير القادرين على دفع أقساط المدارس الخاصة ولا سيما تلك التي رفعت أقساطها من دون أن تأخذ في الاعتبار قدرات المواطنين.
وسط كل هذا الجو القاتم ينفتح أمام اللبنانيين باباً من الأمل للخروج من واقعهم الصعب، والذي تمثل بالإعلان عن البدء بالتنقيب عن الغاز في البحر…
ونحن في هذا المجال، لا بد أن نقدر كل الجهود التي ساهمت في تحقيق هذا الإنجاز سواء أكانت مواقع سياسية أم دبلوماسية أو المعادلة التي رسمتها المقاومة بعدم السماح للعدو باستخراج الغاز إن لم يسمح للبنانيين بذلك. ونأمل هنا من كل من هم في مواقع المسؤولية العمل الجدي على إيجاد كل الضوابط التي تضمن حماية هذه الثروة، لإزالة المخاوف من أن تضيع كما ضاعت الكثير من مقدرات هذا البلد.
ونبقى على صعيد التدقيق الجنائي، لننوه بالبدء بالإجراءات القضائية لمحاسبة المسؤولين عن الهدر المالي الذي كان يحصل في دوائر المصرف المركزي أو المصارف ومؤسسات الدولة، وندعو أن يتابع ذلك بكل جدية ومسؤولية وأن لا تقف أمامه الحواجز الطائفية والسياسية، لعل ذلك يعيد للبنانيين بعض أموالهم إن لم يكن كلها، ويمنع تكرار ما حصل ويكون منطلقاً لبناء دولة خالية من الفساد والهدر ومن المفسدين.
أما على الصعيد الإقليمي، فإننا نرى أهمية العمل لتعزيز العلاقات بين الجمهورية الإسلامية في إيران والمملكة العربية السعودية، ونرى في ذلك خطوة إيجابية من شأنها إعادة تصويب الأمور في الساحة العربية والإسلامية العامة، ومعالجة للملفات العالقة أو المجمدة في المنطقة سواء في اليمن أو سوريا وصولاً إلى لبنان.
ونطل على الذكرى الخامسة والأربعين لتغييب الإمام السيد موسى الصدر ورفيقيه، هذا الإمام الذي ربطته علاقة مميزة مع السيد(رض) والتي لم تنقطع إلى الأيام الأخيرة وقبيل تغييبه، وهي بنيت على العمل المشترك والتعاون في الدعوة إلى الله والاهتمام بالفقراء والأيتام والمستضعفين وفي العمل على تعزيز اللحمة الداخلية إن على صعيد الطائفة الشيعية أو على المستوى الإسلامي العام أو في التقارب الإسلامي المسيحي، أو على الصعيد الوطني، وعملا معاً للتصدي للفتن بكل أشكالها…
إننا نجدد التأكيد في ذكرى تغييب هذه الشخصية الإسلامية والوطنية على المسؤولية التي تقع على عاتق الجميع لبذل الجهود لكشف غموض هذه القضية، فيما يبقى الوفاء له هو متابعة العمل بكل التوجهات والمعاني والقيم التي عمل من أجلها وأراد من غيبوه أن يحرموا هذه الأمة من بركاتها، وخصوصاً دوره في إظهار التشيع بصورة المشرقة في انفتاحه وعقلانيته وأخلاقياته وروحانيته وإنسانيته.
وأخيراً وأمام إصرار هيئة التبليغ الديني في المجلس الشيعي الأعلى على قرارها، رغم عدم موافقة نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى سماحة العلامة الشيخ علي الخطيب عليه، فإننا وبعد التداعيات السلبية التي أدى إليها هذا القرار إن على صعيد صورة المجلس الشيعي ومركزية القرار فيه أو على صعيد صورة الطائفة الشيعية وانفتاحها أو ما أظهره من انقسامات فيها، فإننا ندعو القيادات والجهات السياسية والدينية إلى تحمل مسؤولياتها لمنع استمرار هذه التداعيات وعدم السماح للعابثين بالوحدة الداخلية من التسلل من خلالها وتحقيق أهدافهم التي لن يستفيد منها إلا العدو الصهيوني أو كل من يريد العبث بأمن هذا البلد واستقراره ووحدته، ومنع المصطادين في الماء العكر من تحقيق أهدافهم ومآربهم.
إننا لا ننفي أن يكون هناك خطأ حصل من هذا او ذاك ولكن ذلك لا يعالج بالآليات التي حصلت بل بالأسلوب الذي لا يفاقم الأخطاء ويعمق الانقسامات ويؤدي إلى تداعيات غير محسوبة العواقب