بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
لا يوجد منتخب وطني فلسطيني ضمن تصفيات كأس العالم في قطر، ولولا ظروف الاحتلال وشتات الشعب وانشغاله في المقاومة والسعي لتحرير لوطنهم واستعادة حقوقهم وتطهير مقدساتهم، لربما كان للفلسطينيين المتميزين على مستوى العالم بنجاحاتهم وإبداعاتهم، والمتفوقين في أعمالهم ومواقعهم، والمتبوئين لأرفع المناصب وأسمى الوظائف، والحائزين على أعلى الدرجات العلمية والمتخصصين في مختلف الفنون والدراسات، منتخبهم الوطني لكرة القادم، وفرقهم الرياضية المختلفة، وربما كانوا قادرين على النزال والمبارزة، والتحدي والمنافسة.
فلدى الشعب الفلسطيني المنتشر في الوطن والشتات على امتداد العالم بأكثر من أربعة عشر مليوناً، الكثير من الطاقات الخلاقة والمواهب الرائعة والقدرات المميزة في مختلف الفنون والمهارات الرياضية، ما يجعلهم أقرب إلى منافسة الكبار وتحدي الأقوياء، وحجز أماكن دائمة لهم في مختلف التصفيات الرياضية وفي المقدمة منها كرة القدم، التي تسترعي انتباه العالم كله وتشغله، كونها الرياضة الأغلى والأكثر كلفة التي تتربع على عرش الألعاب الرياضية.
إلا أن الفلسطينيين شأنهم شأن سكان الأرض جميعاً، وإن لم يكن لهم منتخبهم الوطني، فإنهم يتابعون المونديال ويحرصون على مشاهدة كافة المباريات، ولديهم أنديتهم المفضلة التي يتابعونها ويشجعونها، ويرفعون علم بلادها ويحفظون أسماء لاعبيها، قد سعدوا كثيراً باستضافة دولةٍ عربيةٍ لمباريات كأس العالم في سابقةٍ غير متوقعةٍ، إلا أن قطر التي أنفقت مليارات الدولارات في تجهيز النوادي والملاعب وتحضير البنى التحتية لضمان نجاح المونديال، أثبتت أنها على قدر التحدي، وأنها قادرة على تقديم أفضل النماذج في استضافة مباريات كأس العالم، وقد شهد بقدراتها وتميزها مسؤولو الفيفا والمراقبون الرياضيون والمتابعون وأخيراً المشاهدون.
رغم فرحة الفلسطينيين لقطر التي حظيت باستضافة المونديال، وتحدت الكثير من دول العالم ونجحت في تحديها، إلا أنهم يعيبون عليها إدخال المستوطنين الإسرائيليين إلى أرضها، والسماح لهم بحرية الحركة والتنقل، والعمل والتصوير ونقل الأخبار، فضلاً عن موافقتها على فتح خط الملاحة الجوية المباشر بين الدوحة وتل أبيب، رغم الشروط التي وضعتها والضوابط التي فرضتها، إلا أن هذا لا يخفف من حجم الأسى والحزن الذي انتاب الفلسطينيين والعرب لوجود المستوطنين الصهاينة في شوارع وملاعب الدوحة.
لكن الحضور العربي والإسلامي والفلسطيني في قطر عَوّضَ الخلل وعالج العيب وصَوَّبَ الموقف القومي والإسلامي، إذ تصدوا بمختلف جنسياتهم، وبأشكال مختلفة ووسائل عديدة للمشاركين الإسرائيليين، ورفضوا حضورهم واستنكروا وجودهم، وعمدوا إلى مقاطعتهم وحصارهم، والتشديد عليهم وتضييق حركتهم، فلم يفسحوا لهم المجال لنقل أجواء الاحتفالات ومظاهر البهجة التي عمت الشوارع القطرية، وصرخوا في وجوههم “قتلة … إرهابيون”، ارحلوا عن بلادنا لا مكان لكم بيننا، وأسمعوهم كلماتٍ تسيئهم وأخرى تزعجهم، حتى أعلن مراسلوهم، وبثت وسائل إعلامهم، أن أحداً من العرب لا يقبل بهم ولا يتعاون معهم، حتى إن مواطني الدول المعترفة بهم والمطبعة معهم، كانوا عليهم أشد قسوةً وأكثر كرهاً لهم.
ورفعوا في وجوههم الأعلام الفلسطينية، وزينت معاصمهم الرموز الوطنية واعتمروا الكوفية الفلسطينية، وغصت شوارع الدوحة بالصور والشعارات الوطنية الفلسطينية، واستغل الفلسطينيون والمتضامنون معهم السياسة القطرية التي سمحت للمشاركين والحضور بالتعبير عن وجهات نظرهم، بما لا يخل بالعقيدة الإسلامية والأخلاق العامة، فبثوا الأناشد والأهازيج الفلسطينية، ونشروا عبر وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فنية وأخرى سياسية، تعبر كلها عن العنصرية العدوانية الصهيونية، وتوضح المظلومية والمعاناة الفلسطينية.
نقل الإسرائيليون أنفسهم صوراً عن حالتهم في قطر، وأظهروا للعامة بؤسهم وشذوذ وجودهم، وصوروا كيفية معاملة القطريين وعامة العرب والمسلمين القاطنين في قطر وزوارها لهم، فذكر مراسل قناة “كان” العبرية دور هوفمان، أن سائقي سيارات الأجرة في الدوحة، وهم من الجاليات العربية والإسلامية، كانوا يرفضون نقلهم، وإذا تبين لأحدهم بعد ذلك أنه إسرائيلي، فإن السائق يوقف سيارته، ويطلب من ركابها النزول منها، ويرفض أن يأخذ منهم أموالاً، معتبراً إياها أمالاً نجسة وحراماً.
ولقي الإسرائيليون المصير نفسه من عامة المواطنين العرب والمسلمين، الذين رفضوا إدخالهم إلى مطاعمهم، وامتنعوا عن تقديم الطعام لهم، ورفضوا أن يلتقطوا صوراً معهم، أو أن يظهروا إلى جانبهم، وانتزعوا الكاميرات وحذفوا الصور التي تجمعهم بهم، ورفضوا أن يذكروا اسم “إسرائيل” على أسنتهم، بل أصروا على “فلسطين” ورفعوا أصواتهم بها في وجوههم.
ربما لم يحظ مراسلٌ إسرائيلي بضيفٍ عربي ليسمع رأيه في مباريات المونديال، أو يناقشه في أجواء كأس العالم، حتى رفع المراسلون الإسرائيليون أصواتهم شكوىً وضيقاً، أنهم لا يجدون من يرحب بهم ويقبل بوجودهم، وأن العرب جميعاً يكرهونهم ولا يريدون التعاون معهم فضلاً عن الاعتراف بهم، ولا يوجد من بينهم من يتجرأ للظهور معهم أو الدفاع عنهم.
هؤلاء هم العرب الأصلاء، وهؤلاء هم المسلمون الصادقون، الذين يعبرون عن حقيقة انتمائهم لفلسطين وحبهم لها، ولا يترددون في إظهار مواقفهم من العدو الصهيوني وبغضهم له، فهم خير من يمثل هذه الأمة ويعبر عنها وينطق باسمها، وهم خير من يرسم صورتنا الأصيلة ويعلن مواقفنا الحقيقة، فأمتنا مع فلسطين، تحبها وتؤيدها، وتساعدها وتساندها، وهي ضد الكيان الصهيوني، ترفضه ولا تعترف به، وتقاومه وتقاتله، فهو العدو الغاصب، المحتل الظالم، القاتل الباغي، الذي لا تمتد إليه اليد المخلصة بالمصافحة، ولا تلتقي به العيون الصادقة ولو بالمصادفة.