الأرثوذكسية… جذورٌ عميقة وتاريخٌ مليء بالتّحديات المفكر العربي حسن اسميك

الأرثوذكسية… جذورٌ عميقة وتاريخٌ مليء بالتّحديات المفكر العربي حسن اسميك

الأرثوذكسية… جذورٌ عميقة وتاريخٌ مليء بالتّحديات

المفكر العربي حسن اسميك

منذ قرون كثيرة، تشاركنا نحن المسلمين الأرض مع الإخوة المسيحيين، عاشوا بيننا، أثرنا بهم وتأثروا بنا، لكن رغم هذا التعايش، ظلَّ هناك جهل بين أتباع الرسالتين حيال بعضهما البعض، فكثيرون منَّا لا يعرفون إلا القليل عن المعتقدات المسيحية، أو عن تقسيماتها وطوائفها التي كثيراً ما أثارت فضولي ودفعتي إلى التوسع أكثر في دراسة الدين المسيحي وقراءة كتابهم، والغوص في تاريخهم لأتقفى بداية هذه الدين، وكيف تأسست الكنيسة، ثم كيف انقسمت إلى كنائس كثيرة ومختلفة، وإلى طوائف أبرزها الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتسنتية. وهذه المقالات هي محاولة لأتشارك بعضاً من نتائج البحث مع القارئ العربي والمسلم عموماً، فمعرفة المزيد عن المسيحية، عن هذا الدين السماوي الذي يشترك مع ديننا الإسلامي كثيراً وفي كثير من العقائد والإيمانيات، ضرورة لتوسيع المعارف والمدركات من جهة، ولأننا في عصر من الاضطراب، لا نجاة فيه إلا للقادرين على بناء جسور التواصل مع الآخر.

خلال الاطلاع على بعض الكتابات عن المؤلفات المسيحية القديمة، صادفت هذا التصريح: “يجب البحث عن الدين… فقط بين أولئك الذين يُطلق عليهم اسم المسيحيين الكاثوليك أو الأرثوذكس، أي حرّاس الحقيقة وأتباع الحقّ”.

هذا الكلام لأوغسطين (354 –430)، الفيلسوف واللاهوتي و”القدّيس”، وإحدى أكثر الشخصيات تأثيراً في تطور المسيحيّة، الغربيّة على وجه التحديد. يُعرف عالمياً باسم “أوغستين من هيبو Augustine of Hippo”، و”هيبو” هذه؛ هي اليوم ولاية عنّابة الجزائرية على البحر المتوسط، واللاهوتي من أصلٍ بربريّ أمازيغيّ.

ورد هذا الاقتباس في كتاب أوغسطين “عن الدين الحقيقي On True Religion”، وهو أحد أكثر أعماله أهميّةً، إذ يجادل فيه بأن الدين الحقيقيّ لا يتعلّق بالطقوس أو المعتقدات، بل يتعلّق بالعلاقة مع الله. ويرى أنّ الكنيستين الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة هما الحارسان الحقيقيان الوحيدان لهذه العلاقة.

لقد كان تصريح أوغسطين هذا مثيراً للجدل في وقته، ولا يزال كذلك بطبيعة الحال إلى اليوم، حتى بين المسيحيين أنفسهم، حيث يعتقد بعضهم أنه يعكس الدور الفريد للكنائس الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة في الحفاظ على الإيمان المسيحيّ ونقله. فيما يرى آخرون أنها وجهة نظر ضيّقة وحصريّة تتجاهل تنوّع التجربة المسيحية.

إنّ الحديث في موضوع “الدين الحقيقي” أمرٌ آخر مختلف، وما يهمّ من كلام أوغسطين، أنه في القرون المسيحية الأولى، كانت النظرة إلى المسيحيين الكاثوليك والأرثوذكس واحدة تقريباً، والتعامل معهم واحداً، ولقد ناقشت كيف تطورت الأمور بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية في الغرب، فلا بُدّ بالتالي من إلقاء الضوء على الشطر الشرقي من العالم، على الكنيسة الأرثوذكسية، والتي ينتمي إليها العدد الأكبر من المسيحيين العرب، لتقصّي مسارها وتطورها وأبرز الأحداث التاريخية التي أثّرت أو تأثّرت بها، ورسمت معالم طريقها، وصولاً إلى مكانتها العالمية اليوم.

الطوائف الشرقيّة، ككل الطوائف المسيحية، بدأت وانتشرت ونمَتْ من فلسطين وسوريا، ثمّ من أنطاكية، المدينة السورية التي تقع اليوم جنوب شرق تركيا، وكانت في العصر الهلنستي عاصمة الإمبراطورية السلوقية، ومركزاً تجارياً وثقافياً مميزاً. ثم تصاعدت أهميتها في العصر الروماني، حتى صارت ثالث أكبر مدينة في العالم، بعد روما والإسكندريّة، فجذبت اهتمام القديس بولس، وهو المولود في طرسوس المجاورة، ومنها بدأ تبشيره. وكانت من أوائل المدن التي اعتنقت المسيحية منذ القرن الأول الميلادي، وواحدة من الكنائس الخمس الأولى التي تشكّلت في العصر المسيحي المبكر. ولا تزال اثنتان من أهم الكنائس الأرثوذكسية تحمل اسمها، بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، وللسريان الأرثوذكس. ومن أنطاكية انتشرت المسيحية إلى الغرب، وتأسست كنائس روما والقسطنطينية وغيرها.

ورغم الانقسام الذي كان يحدث في الكنيسة، ظلّت الكنيستان الكاثوليكية والأرثوذكسية، إلى أواسط القرن الثاني عشر تقريباً، متقاربتين في كل شيء: في عدد الأتباع وفي السطوة والنفوذ وفي الانتشار الجغرافي، لكن الأمور اليوم ليست كما كانت في الماضي، فعدد الكاثوليك في العالم اليوم يزيد عن عدد الأرثوذكس بنحو مليار إنسان. وإن اختلفت التقديرات حول عدد الأرثوذكس في العالم، إلا أنها تتراوح بين 223 مليوناً و300 مليون مسيحي لا أكثر، ولهذا أسباب كثيرة سأمرّ عليها تباعاً. كما أن نسبةَ الأرثوذكس من إجمالي السكان المسيحيين – وسكان العالم – آخذةٌ بالانخفاض بسبب النمو الأسرع بكثير بين البروتستانت والكاثوليك وغير المسيحيين. واليوم، وبحسب مركز بيو للأبحاث، فإن 12% فقط من المسيحيين في جميع أنحاء العالم هم من الأرثوذكس، مقارنة بما يُقدَّر بنحو 20% قبل قرن من الزمان. و4% من إجمالي سكان العالم هم من الأرثوذكس، مقارنة بما يُقدَّر بنحو 7% في عام 1910.

وتعدّ الأرثوذكسيّة الشرقيّة أكبر طائفة أرثوذكسية، حيث يتجاوز عدد أتباعها 200 مليون. أما الأرثوذكسية المشرقية، فهي أقل عدداً، حيث يُقدَّر عدد أتباعها بنحو 80 مليوناً. لكن ما الفرق بين الاثنتين؟

خلقيدونيّة ولا خلقيدونيّة

بصفةٍ عامّة، هناك نظرة سائدة عند الغربيين وعند غير المسيحيين، بأن الكنائس الشرقية متقاربة ولها عقيدة واحدة، وهذا بعيد من الواقع. فالكنائس الشرقية القديمة (الأرثوذكسية المشرقية) تختلف بجانب عقائديّ “مهمّ” عن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية (الرومية الأرثوذكسية أو البيزنطية، أو كما تسمى أحياناً الأرثوذكسية الكاثوليكية). فالثانية خلقيدونيّة، مثلها كمثل الكنائس الغربية الكاثوليكية والبروتستانتية، أما الأولى، فهي لا خلقيدونيّة.

وخلقيدونية، كما أشرتُ سريعاً في مقالة سابقة، هو المجمع المسكوني الرابع، والمجمع المسكوني هو اجتماع للأساقفة والقادة الآخرين للنظر في مسائل العقيدة المسيحية والإدارة والانضباط والمسائل الأخرى، وتُتّخَذ قراراته بالتصويت. يعود أصل مصطلح “مسكوني” إلى الكلمة اليونانية “oikoumene” التي تعني “العالم”. وهكذا، فإن المجمع المسكونيّ هو مجمع يُعقَد لتمثيل جميع أنحاء العالم المسيحي.

يعود أصل المجامع المسكونيّة إلى القرن الرابع الميلادي، حيث بدأت الكنيسة المسيحية تتوسّع، وبدأت تظهر اختلافات في العقيدة والممارسة بين الكنائس المختلفة. وقد أدّت هذه الاختلافات إلى عقد المجالس المسكونية لمحاولة التوصل إلى اتفاق حولها.

اعترفت معظم الطوائف المسيحية، عدا المشرقية منها، بالمجالس المسكونية السبعة الأولى، وهي:

1. مجمع نيقية الأول (325م): أصدر قانون الإيمان النيقاوي الذي يحدّد “ألوهية” المسيح.

2. مجمع القسطنطينية الأول (381م): أصدر قانون الإيمان القسطنطيني الذي يؤكّد على “الثالوث الأقدس”.

3. مجمع أفسس (431م): شهد خلاف نسطوريوس وكيرلس الإسكندريّ.

4. مجمع خلقيدونية (451م): لا تعترف الكنائس المشرقية به، وبما تلاه، على أنها مجامع مسكونية.

5. مجمع القسطنطينية الثاني (553م).

6. مجمع القسطنطينية الثالث (680-681م).

7. مجمع نيقية الثاني (787م).

من جهة أخرى، اشتُقت كلمة “خلقيدونية” من اسم مدينة خلقيدونية في تركيا، حيث عُقد مجمع خلقيدونية. وقد أقرّ بأن للمسيح طبيعتين، إلهيّة وبشريّة، متّحدتين في شخص واحد بلا اختلاط ولا امتزاج ولا انفصال. بالمقابل، يقول اللاخلقيدونيون بأنّ للمسيح طبيعة واحدة، إلهية بشرية، متحدة دون اختلاط أو امتزاج، ويرفضون فكرة الطبيعتين.

الكنائس اللاخلقيدونية هي: الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، والكنيسة الرسولية الأرمنية، والكنيسة السريانية الأرثوذكسية، وكنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإثيوبية، وكنيسة التوحيد الأرثوذكسية الإريترية، والكنيسة الهندية الأرثوذكسية، بالإضافة لكنائس فرعية تتبع لهم. أما الكنائس الغربية فكلها خلقيدونية، ومثلها كنائس “الروم الأرثوذكس”، وهي:

1. كنيسة القسطنطينية.

2. كنيسة الإسكندرية.

3. كنيسة أنطاكية.

4. كنيسة القدس.

وهذه الأربع هي الكنائس المسيحية الأولى (والخامسة روما).

5. كنيسة روسيا (تأسست عام 1589).

6. كنيسة صربيا (1219).

7. كنيسة رومانيا (1925)

8. كنيسة بلغاريا (927).

9. كنيسة جورجيا (466).

وهذه التسع يقودها بطاركة، بينما يقود الكنائس الأخرى رؤساء أساقفة أو مطارنة.

10. كنيسة قبرص (434).

11. كنيسة اليونان (1850)

12. كنيسة بولندا (1924)

13. كنيسة ألبانيا (1937)

14. كنيسة الأراضي التشيكية والسلوفاكية (1951)

15. الكنيسة الأرثوذكسية في أميركا (1970)

تضمّ الطائفة الأرثوذكسية أيضاً عدداً من “الكنائس المستقلة” مثل كنيسة سيناء، وكنيسة فنلندا، وكنائس في إستونيا، واليابان، والصين، وأوكرانيا، تعترف باستقلالها بعض الكنائس الأخرى فقط.

لقد سُمّي أنصار مجمع خلقيدونية بـ”الملكيين” لأنهم كانوا على رأي الملك الروماني الخلقيدوني، ولتمييزهم عن سواهم من الأرثوذكسيين، كما وُصفت الكنائسُ المشرقية بأنها “مونوفيزية Monophysite” (أي تؤمن بطبيعة واحدة في المسيح)، بينما وُصفت الكنائس الشرقية والغربية بأنها “ديوفيزية Diophysite” (أي تؤمن بطبيعتين في المسيح).

إرهاصات الانقسام العظيم

في مجمع خلقيدونية نفسه، مُنح بطريرك القسطنطينية حقّ التقدم على بقية البطاركة، انطلاقاً من دوره السياسي في الإمبراطوريّة البيزنطية، وقد كانت في أوجها (وما زال إلى اليوم يسمى البطريرك المسكوني لتمييزه عن بقية البطاركة، وهذا لقب فخريّ رمزيّ ليست له ميزات فعليّة، فهو “الأول بين متساوين”)، الأمر الذي أغضب أسقف روما كثيراً.

والخلاف الآخر مع كنيسة روما (الكاثوليكية) كان حول قانون الإيمان. فقد اعتمدت الكنيسة الأرثوذكسيّة الشرقيّة قانون الإيمان النيقاوي الذي ينصّ على أنّ الروح القدس ينبثق من الآب فقط. أما الكنيسة الكاثوليكية، فقد أضافت إلى قانون الإيمان كلمة “والابن” بعد “الآب”، ليصبح النصّ: “نؤمن بالروح القدس الربّ المحيي المنبثق من الآب والابن”. رأت الكنيسة الأرثوذكسية أن هذه الإضافة تُخالف الإنجيل وقرارات المجامع الأولى، ولذلك اعترضت عليها.

بالطبع، كان هناك خلافات أخرى بين الكنيستين، مثل قضية زواج الكهنة وغيرها، والتي زادت كثيراً من التوتر بين الكنيستين، وصولاً للانشقاق عام 1054، وهو العام الذي أنهى وحدة الكنيسة.

الحروب الصليبية على الأرثوذكسية

مع أنّ الانشقاق كان عام 1054، إلا أنّ الانفصال الفعلي في أذهان معظم الأرثوذكس كان عام 1204، العام الذي نُهبت فيه القسطنطينية على يد الصليبيين، وتمَّ تنصيب إمبراطور لاتينيّ على مضيق البوسفور، وتنصيب بطريرك لاتينيّ في آيا صوفيا (كنيسة الحكمة المقدّسة التي بناها جستنيان في القرن السادس، وكانت مركز الحياة الدينيّة في العالم الأرثوذكسيّ الشرقيّ، وأحد أروع الصروح في العالم المسيحيّ كلّه). كان هذا النهب من قبل الصليبيين الغربيين بمنزلة طعنة في القلب للإمبراطورية البيزنطية، القوة المسيحية المهيمنة في المشرق حينها، فقد مثَّل بداية النهاية للإمبراطورية البيزنطية، وسرعان ما سقطت في أيدي العثمانيين المسلمين عام 1453.

لوحة تمثل دخول الصليبيين إلى كنيسة آيا صوفيا

لم يكن هذا الحدث مجرد خسارة سياسية للأرثوذكس، بل كان أيضاً خسارة ثقافية وروحانية. لقد هزَّ هذا النهب الثقة في الكنيسة الأرثوذكسية، وجعلَ من الصعب على المسيحيين الأرثوذكس في جميع أنحاء العالم تقبّل الكنيسة الغربية، وحكمَ بالفشل المسبق على كثير من تجارب التوحّد من جديد، ومن أبرز هذه التجارب مجمع فلورنسا.

اتحاد الكنيستين بالإكراه

مجمع فلورنسا هو المجمع المسكونيّ السابع عشر في الكنيسة الكاثوليكية، انعقد في المدينة الإيطاليّة بين عامي 1438 و1445، بهدف تحقيق الوحدة بين الكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، بقيادة البابا إجين الرابع والبطريرك يوحنا الثامن باليولوج. وبعد مفاوضات طويلة، تمّ التوصل إلى اتفاق في عام 1439، يُعرف باسم “اتحاد فلورنسا”.

نصّ الاتحاد على اعتراف الكنيسة الأرثوذكسية بالبابا كرأس الكنيسة المسيحية، وقبولها ببعض العقائد الكاثوليكية، مثل عقيدة الثالوث الأقدس، وخلود النفس، ووجود المطهر. جاء هذا الاعتراف نتيجةً لضغوط مارسها الإمبراطور البيزنطي على الأرثوذكسيين، لأنه كان يأمل الحصول على دعم البابا ضد العثمانيين الذين باتوا على أعتابه. وبالطبع، رفض كثير من رجال الدين الأرثوذوكس الاتحاد، واعتبروه خيانة للإيمان الأرثوذكسي. وبالفعل، سقط هذا الاتحاد عملياً – ومعه قبول الأرثوذكس بتلك العقائد – بمجرد سقوط القسطنطينية، وأُدين عام 1484 من قبل المجمع المسكوني الخامس عشر الذي أعلن أن الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية ما زالت منفصلة عن الكنيسة الكاثوليكية.

التوسع التبشيري البيزنطي وروما الثالثة

فيما كانت المواجهة دائرة بين القسطنطينية وروما نهاية الألفية الأولى، كان التوسع التبشيري للأولى ينتشر نحو أوروبا الشرقية، ابتداءً من القرن التاسع، عندما اعتنقت بلغاريا المسيحية، حيث أُنشئَتْ في عهد القيصر سمعان (893-927) بطريركية مستقلة في بريسلاف، ثم في عهد القيصر صموئيل (976-1014) ظهر مركز بلغاري آخر مستقل في أوهريد. وهكذا، أخذت الكنيسة البيزنطية الناطقة بالسلافية تتحول إلى قوة دينية مهيمنة في شبه جزيرة البلقان.

استمرت المسيحية في الانتشار في المنطقة، وبخاصة بعد اعتناق أمير كييف فلاديمير الأرثوذكسية البيزنطية في عام 988. كما يظهر تأثير التوسع التبشيري واضحاً في روسيا التي اعتنقت المسيحية الأرثوذكسية نهاية الألفية الأولى تقريباً. فقد تبنّتْ روسيا العديد من عناصر الثقافة البيزنطية، بما في ذلك اللغة اليونانية، ونظام الكتابة، والعمارة الدينية. كما أسهمت المسيحية الأرثوذكسية في تشكيل الهُويّة الروسيّة، حيث أصبحت رمزاً للوحدة الوطنية. ورغم نهب المغول كييف (1240)، وتحوّل روسيا إلى جزء من إمبراطورية جنكيز خان المغولية، نجا التراث البيزنطي، لأن الكنيسة الأرثوذكسية أظهرت قوّة ومرونة إداريّة ملحوظة.

وبعد سقوط القسطنطينية على يد العثمانيين في عام 1453، بدأت تنمو فكرة “روما الثالثة”، فقد حاول بعض القادة والمفكرين الروس الترويج لفكرة أنّ موسكو هي الوريث الشرعيّ للإمبراطوريّة الرومانيّة، وأنّها يجب أن تقود العالم المسيحيّ الأرثوذكسيّ. تظهر هذه الفكرة بوضوح في رسالة راهب بسكوف الروسي فيلوثيوس عام 1510، جاء فيها: «لقد سقطت روميتان (ويقصد روما التي سقطت بالكثلكة، وقسطنطينية على يد العثمانيين)، الثالثة قائمة. ولن يكون هنالك رابعة».

كانت هناك عقبة كبرى تواجه جهود نشر هذه الفكرة، فلم يكن رئيس الكنيسة الروسية يحمل لقب “البطريرك”. وانتظر الروس حتى عام 1589، عندما كان بطريرك القسطنطينية، إرميا الثاني، في جولة لجمع الأموال في روسيا، الذي تحت ضغط مضيفيه، لم يستطع إلا أن يعيّن المتروبوليت أيوب كـ”بطريرك موسكو وكل روسيا”. وبتأكيد الكنائس الشرقية الأخرى لاحقاً، حصلت البطريركية الجديدة على المركز الخامس في الترتيب الشرفي للكراسي الشرقية، بعد بطاركة القسطنطينية، والإسكندرية، وأنطاكية، وأورشليم.

طبعاً، ادّعت دول وإمبراطوريات كثيرة لاحقة بأنها الوريثة الشعرية للإمبراطورية الرومانية، وأغلب الظن أن روسيا اليوم تحاول إحياء هذه الفكرة، أو لنَقُل لعب دور حامي الأرثوذكسية في العالم، وهذا حديث أدعه لمقالة لاحقة.

الأرثوذكسية زمن العثمانيين

بالعودة إلى القسطنطينية، فقد سقطت على يد السلطان العثماني المعروف بـمحمد الفاتح، البالغ من العمر حينها نحو 21 عاماً فقط. لم يشعر السلطان بالاكتفاء، بل كان يريد المزيد ويخطط لغزوات جديدة. ولتعزيز جبهته الداخلية، أراد ضمان ولاء السكان المسيحيين، وعدم لجوئهم إلى كنيسة روما طلباً للمساعدة، ما قد يؤدي إلى حملات صليبية جديدة. كان العثمانيون قد قسّموا غير المسلمين في دولتهم إلى مِلَلٍ، وهي مجموعات دينية وثقافية مختلفة. كان المسيحيون اليونانيون أكبر هذه المجموعات، وكانوا يُعرفون باسم المِلَّة الرومية. لذلك، عُيِّنَ غيناديوس سكولاريوس كبطريرك مسكوني جديد، فقد كان معارضاً شرساً للاتحاد بين الكنيسة الأرثوذكسية والكاثوليكية، وأصبح غيناديوس شخصية قوية في الملة الرومية، فقد كانت لديه سلطة دينية وسياسية، وحقٌّ في إدارة وفرض الضرائب وتطبيق العدالة على جميع المسيحيين في الإمبراطورية العثمانية.

لقد سمح هذا الترتيب العثماني للكنيسة الأرثوذكسية بالبقاء كمؤسسة قوية، لكنه أدى أيضاً لسيطرة اليونانية على شؤونها، الأمر الذي أفضى في النهاية إلى استياء كبير ما لبث أن تطوّر إلى اندلاع الثورات القومية في البلقان التي أدت إلى استقلال هذه الدول عن الإمبراطورية العثمانية.

قُبيل الحرب العالمية الأولى وبعدها

شهدت الملل المسيحية في السلطنة العثمانية في القرن التاسع عشر نهضة اقتصادية واجتماعية وثقافية، رافقتها حركات وطنية ودعوات للاستقلال. فمع تبلور حركة “التنظيمات العثمانية”، تمتّع المسيحيون بمزيدٍ من الحرية والاستقلالية، وازدهرت المدارس والجامعات والمسرح والصحافة اليونانية. كما ظهرت حركة أدبية ولغوية وشعرية مميزة، وبرزت فكرة القومية الهيلينية، ومعها الدعوة للاستقلال التي اندلعت على أساسها عام 1821 حرب الاستقلال اليونانية، وأفضت إلى استقلال اليونان عن الدولة العثمانية.

كثيرةٌ هي الأقاويل التي شاعت عن تلك الفترة وعمّا حدث فيها من مجازر عثمانية بحقّ المسيحيين من مختلف الطوائف الشرقية، الأرمن والروم (اليونانيين) والآشوريين والسريان، فيُرجعها البعض إلى خشية لدى الأتراك من نزعات انفصالية لدى هؤلاء، أو لأنهم يهددون وحدة الهُويّة التركية، ويرى آخرون أنّ الأتراك كانوا يريدون فعلاً التخلص من اليونانيين في بلادهم. أمّا الأكثر تطرفاً، فقالوا إنّ الأتراك لم يستطيعوا التنافس مع رعاياهم المسيحيين في الفكر والثقافة والنجاح، لذلك، عمدوا من وقتٍ لآخر إلى الطرد والمذابح، ويضيفون بأن الفتوحات الإسلامية في الماضي وعلى امتداد تاريخها لم تستهدف المسيحيين بهذه الطريقة. بالطبع لدى الجانب التركي روايته الخاصة، وغالباً ما يُطلق على أحداث نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مسمى “كارثة وطنية”. ولم تعترف أي حكومة تركية بأي مذابح. وهنا لا بدَّ من عرض الروايتين من باب الموضوعية ليتسنى للقارئ التدقيق والبحث، والحكم إذا شاء على تلك الأحداث هل هي دينية أم سياسية!

استمرت الخلافات بين تركيا واليونان حتى إلى ما بعد الحرب العالمية الأولى وانهيار الإمبراطورية العثمانية، وأفضت إلى “اتفاقية التبادل السكاني بين اليونان وتركيا 1923” التي غيّرت التركيبة السكانية لكلا البلدين، فقد نصّتْ على نقل جميع المواطنين المسيحيين الأرثوذكس الأصليين في تركيا، باستثناء أهالي إسطنبول، إلى اليونان. وبالمقابل، نقل جميع المواطنين المسلمين الأصليين في اليونان، باستثناء أهالي تراقيا الغربية، إلى تركيا.

وهكذا، جرى اقتلاع أكثر من مليون مسيحيّ أرثوذكسيّ ونصف مليون مسلم من أراضيهم التي وُلدوا وعاشوا هم وأجدادهم فيها، وخسروا جنسيتهم، وأُعيد توطينهم قسراً في دولة أخرى لا يعرفون لغتها حتى، بناءً على الانتماء الديني فقط.

شكّل المسيحيون الأرثوذكس نسبةً كبيرة من سكّان الدولة العثمانية قبل الحرب العالمية الأولى. فقد قُدِّر عددهم بنحو 1.8 مليون نسمة، أي 20% تقريباً من إجمالي سكان الدولة. ويشكّل المسيحيون الأرثوذكس اليوم أقل من 1% من سكّان تركيا، يعيش معظمهم في إسطنبول، حيث يشكّلون نحو 10% من سكان المدينة.

الأرثوذكسية اليوم

تتركّز الأرثوذكسية اليوم في أوروبا الشرقية (روسيا، رومانيا، بلغاريا، أوكرانيا، جورجيا، قبرص، صربيا، ألبانيا) بالإضافة إلى اليونان طبعاً، وسوريا، ولبنان، وفلسطين، ومصر، وإثيوبيا. توسّع الكاثوليك والبروتستانت توسعاً كبيراً خارج القارة العجوز، فيما ظلّت الأرثوذكسية متمركزة إلى حدٍّ كبير فيها، حيث يعيش نحو أربعة من كلّ خمسة من المسيحيين الأرثوذكس (77%) في أوروبا، وهو انخفاض متواضع نسبياً (14%) عمّا كان عليه قبل قرن من الزمن (91%). وعلى النقيض من ذلك، يعيش الآن في أوروبا نحو ربع الكاثوليك (24%) وواحد من كل ثمانية بروتستانت (12%)، بانخفاض يُقدَّر بنحو 65% و52% على التوالي عن نسبهم فيها عام 1910.

ولأن معدلات الخصوبة الإجمالية في أوروبا أقل من المناطق النامية في العالم، مثل الشرق الأوسط وأفريقيا وأميركا اللاتينية، تتراجع حصة الأرثوذكسية من السكان المسيحيين في العالم، ومن المتوقع أن يستمر هذا التراجع في العقود المقبلة.

ورغم خطورة هذا التهديد الديموغرافي، فإنه لم يمنع من قيام حرب “أرثوذكسية – أرثوذكسية”، إذا جاز التعبير، بين اثنين من أكبر معاقل هذه الطائفة، وأقصد طبعاً روسيا وأوكرانيا. فحيثيات العلاقة الدينية بين هذين البلدين، وإلى أي حدٍّ يمكن اعتبار الحرب بينهما “حرباً دينية” بالمعنى المتعارف عليه، وكذلك موقف الكنيسة الأرثوذكسية بالعموم من هذه الحرب.. هي تساؤلات سأترك الإجابة عنها إلى وقت لاحق.

يتبع!

عن عين الاردن